: الحبيب ناصري
البارحة كنت في حوار وعن بعد مع صديق مهووس بالكتابة عن الدار البيضاء. إنه صديق مثقف وعاشق للمغرب في شقه الثقافي الشعبي العميق. عاشق لفن العيطة وللأغاني المغربية والعربية القديمة وغيرها. له ذوق فني هو في ملكية كل من عاش زمن “الواشمة” بامتياز، وبدوري أعتز بكوني واحدا من هذا الجيل الذي هو اليوم، وربما، يسير في اتجاه “الانقراض” أو على الأقل يتجه نحو “الغربة” في هذا العصر الذي بدأت تنقض عليه “ثقافة” التفاهة، وعلى الرغم من هذا يبقى هو الأصل والباقي مجرد فرقعات قد تعمر طويلا لكنها دون طعم. هو اليوم من المهاجرين القدامى إلى الديار الإمارتية حيث عمله هناك. منذ مدة بدأت في كتابة بعض النصوص العفوية والبسيطة حول الدار البيضاء وتبلورت الفكرة في اتجاه كتابة مؤلف حولها. لم أكن أتصور في يوم من الأيام أن أخصص جزءا من زمني وأنا في “أرذل” العمر عن هذه المدينة التي لم أكن أقدر على البقاء ليلة واحدة في بيت من بيوتها. اليوم، تمنيت لو كنت أملك بيتا في أحد أحيائها العريقة لاسيما حي الأحباس وبالقرب من مكتباتها وفضائها الجميل هنا، وذلك طبعا يأتي في سياقات مهنية أصبحت تربطني بالمدينة. نبهني صديقي سي عزيز رزناغة، وهو المشار إليه في مقدمة هذا المقال، أن الانتماء إلى مدينة البيضاء سهل جدا. كل من سكنها أو اشتغل بها وحتى لم يولد بها من الممكن وبسهولة أن ينتسب إليها. شدتني كثيرا هذه الجملة. قلت مع نفسي لقد صدق الرجل في كلامه. لكن كيف يمكن أن نبحث عن تحليل لكلامه هذا. كأنه أعطاني نتيجة وطلب مني ضمنيا أن أبرهن عليها. أعرف خبرة الرجل وما راكمه من كتابة عن المدينة لاسيما نصه المعنون ب”العبدية”.
من الممكن فعلا مقاربة ما ورد في كلامه من زوايا متعددة. من الممكن هنا أن نطبق، عن هذه المدينة، المثل الشعبي المغربي القائل “فين ما ضربت القرع يطير دمو”. أي كن سوسيولوجيا أو مؤرخا أو ناقدا أو كاتبا أو سينمائيا أو ممارسا لأي حرفة، الخ، من الممكن أن تقدم أجوبة مهمة عن السؤال التالي، لماذا نشعر نحن المغاربة جميعا وربما كل من مر من هذه المدينة، وحتى الذي “شتم” ضجيجها وتدفق أمواجها الآدمية طيلة الليل والنهار بحثا عن “قطعة” خبز، أننا وبسهولة كلما قضينا بها زمنا ولو قصيرا نعلن انتماءنا لها وهو ما لا يمكن أن يحدث مع مدن مغربية أخرى كمراكش أو فاس أو طنجة أو مكناس أو وجدة، الخ؟.
لا ننس أن تشكل الدار البيضاء كان من قبائل عديدة ومن عرقيات متنوعة لأسباب اقتصادية واجتماعية وتعليمية، الخ. ففيها تجد الأمازيغي بجانب الصحراوي وبجانب لعروبي والعبري والريفي والإفريقي،الخ، ودافع واحد كان وراء هذا التساكن، كون المدينة غير منتمية لعرق واحد، بل هي خليط من كل القبائل المجاورة لها ومن كل الأجناس التي هاجرت إليها بحثا عن الرزق ولكونها قلب المغرب النابض والمحدد لاقتصاده ومستقبله.
الكل ذاب فيها والكل انصهر والكل تقارب ولا “لهجة” فيها مميزة للمدينة كما هو الشأن في فاس أو طنجة أو مراكش أو سوس، الخ، بل كل “لهجات” المغرب حاضرة هنا وتفاعلت فيما بينها وقدمت لنا ما هو موجود اليوم في هذه المدينة التي كتبت عنها سابقا وقلت عنها، إنها مدينة تطعم كل المغاربة بأشكال مختلفة ومتعددة. هي المدينة التي قد يحبها الجميع وقد يلعنها الجميع، لكن، الكل له “مآرب” بها وفيها.
مدينة لن يسألك أحد فيها عن أصلك وملتك. بل السؤال دوما هنا هو ما يفيد يومك وتفاصيل عيشك وحياتك وكيف من الممكن أن تجد محلك من الإعراب فيها. إن استطعت فأنت محظوظ لكونك ستقبض على سر من أسرارها العميقة. أتذكر كيف حضرت المدينة في أعمال سينمائية عديدة لاسيما في أعمال المخرج لقطع والدرقاوي وليلى المراكشي والبوعناني والمعنوني ولخماري والعسلي وغيرهم من المخرجين المغاربة ولها حضورها في الأدب الروائي لاسيما في الريح الشتوية لربيع مبارك، حيث نجد فيها بعض التفاصيل الدقيقة الخاصة بعلاقة المكان/القبيلة بالبيضاء، وغيرها من الشعر والزجل والقصة القصيرة والتشكيل والمسرح، الخ.
كلام صديقي سي عزيز، كلام من الممكن النبش فيه ومن زوايا عديدة كما حاولت سالفا ولو بشكل مكثف وعابر، لكن وفي اعتقادي المتواضع، فالمدينة تشبهنا نحن المغاربة في كل شيء. تفاصيل أمكنتها وعلاقاتها المجتمعية والثقافية الشعبية والاقتصادية والإنسانية، الخ، هي مرآة صافية من خلالها من الممكن أن نرى وجوهنا جميعا فيها ولأسباب عديدة، ليس هنا مجال تفصيل القول فيها. يكفي أن نقول إنها مدينة تجمع كافة التشكلات العرقية للمغرب ثم هي مقياس به نقيس طبيعة تمدننا وطبيعة سلوكياتنا وعلاقاتنا وكل ما بنيناه منذ وعلى الأقل حصولنا على الاستقلال سنة 1956.
فهل المدينة هي المغرب ولهذا يكفي أن تكون مغربيا وحاملا لجنسية مغربية وببساطة تشعر بالانتماء إليها دون حاجة إلى تقديم تفاصيل عديدة عن أسرتك وملتك ومذهبك ومن سكنها من أجدادك الأوائل؟. هل فعلا هذه المدينة هي في ملكية ثقافية شعبية لكل المغاربة ولغيرهم من الذين يسكنونها من عرب وعجم؟. هل هي مفتوحة في وجه الجميع وبمجرد أن تجد فيها سبيلا للعيش وسواء غيرت بطاقة هويتك أم لم تغيرها فأنت منها لكون بنية اقتصادها وعمرانها ونمط عيشها، الكل فيها يحتاج للكل وهي دوما تقول، هل من مزيد وهل من راغب في العيش بين أحضاني فأنا “أم” الجميع ومستعدة لإطعام الجميع بما فيهم من “يشتمني”؟. إنها وببساطة، وفي اعتقادي المتواضع، المشترك المغربي الشعبي والرسمي الذي يجمع الكل فيها.
ويبقى السؤال مطروحا. لماذا الكل من الممكن أن ينتمي لهذه المدينة التي لها مسميات عديدة في التداول الشعبي المغربي ك ” كويزا والدار لكحلة والعجلة والغول، الخ”، في حين ليس من السهل الإحساس بنفس الانتماء في مدن مغربية أخرى كما سبقت الإشارة إلى ذلك سابقا؟.
-د.الحبيب ناصري : المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بالدار البيضاء
المصدرقناة العرب المغربية