الكاتب : الحبيب ناصري
كنت كلما ذكر اسمها أو اضطرت للذهاب إليها، أصيب رأسي بدوخة مسبقة. كانت ترهبني وترهقني حينما أكون بين أحضانها. أسعى جاهدا أن أتخلص من ذراعيها قبل غروب الشمس لكي لا أقضي ليلة ما و”أنا” في قبضة يديها…كنت كلما دعيت لمناسبة اجتماعية أو للمشاركة في عمل ثقافي أقبل على مضض وأشارك نهارا وأتهرب من “ضجيجها” بحثا عن النوم خارج أسوارها. أتخلى عن دعوات عشائها الفاخر لأنني أعرف أن ما يتبع العشاء الفاخر ضجيج في الليل لا يجعلني أفكر في ما قمت به نهارا. الركن الوحيد الذي كنت أعشق (ولازلت طبعا) في جسدها الرهيب حي الأحباس ومقهى موريتانيا والمكتبات القريبة منها. الفضاء الوحيد الذي كان يشفع للبقاء بها بضع ساعات ولا أتنفس الصعداء إلا حينما أجدني خارج أمكنتها وفي اتجاه أي مكان آخر غير هي.
ما أصعب أن تصاب بعشق وأنت في آخر العمر. نوع من هذا العشق، يجعلك تستسلم لهوى المعشوق دون نسيان من أسر قلبك في الماضي. المكان له سحره ومنطقه الذي يتحكم فينا ويجعلنا نؤسس العديد من السرود التي لا تخلو من متعة حكي دالة، ونمارس سلطتنا المضادة لنحقق توازنا النفسي والوجداني والإنساني بطبيعة هذه الأمكنة/الشخصيات التي تسكننا ونحمل قصصها على الدوام.
كازا اليوم في عيوني ليست هي كازا الأمس. ذراعاها أصبح لهما سحرهما الذي يجعل ضجيجها بنية إيقاع تدفعك للاستسلام لهواها إن أصغيت جيدا لمن ينظم هاته الإيقاعات. أطعمتها الليلية، على ضفاف محيطها الأطلسي الحامل لجزء من تاريخ هذا العالم الحديث، تقربك إلى أنسها وحكاياتها. سألت صديقي خالد قبل أن أصاب بهواها ذات نهار عن السر في عشق البعض لكازا في ظل هذا التسابق البشري الدائم ليل نهار؟. ابتسم وقال :
– كازا مسكينة. هذا حالها مع المغاربة. هي أمهم . تطعمهم جميعا. تعالجهم جميعا. تمتعهم جميعا. “يشتمونها” جميعا ولا أحد قادر على العيش دونها. ضحكت وقلت له:
– لو منحوني قصرا شامخا بها وحراس ليل ونهار وكل ما لذ وطاب لفضلت بيتا بسيطا في مدينة صغيرة أو في قرية معلقة في جبل. ضحك وقال لي لا زلت بعيدا عنها وحينما تصاب بهواها ستبحث عن بيت صغير في درب من دروبها وحينها ستبدأ حياتك من جديد في الاستمتاع بهواها.
اليوم أخبر صديقي خالد أنني أصبت بهواها…أصبحت شغوفا بتفاصيل أمكنتها اللذيذة. كازا والكل في كازا. كازا التي سحرت قلوب الملايين فكيف لا أصاب وانفلت من هواها والرأس اشتعل شيبا؟. تفاصيل أمكنتها الشعبية تبوح بقصص عديدة. وجوه منشغلة بالحياة وتعرف كيف تبحث عن “قطعة” خبز مهما تقلب بها الزمان في زمن مغربي لا يملك بترولا لكن يملك قدرة على النبش في كل ما يقع في هذا العالم وتكنولوجيته المعقدة التي تصبح سهلة بين يدي شباب “جوطية درب غلف”.
كازا العريقة تلخص عيش وحياة كافة الفئات المجتمعية المغربية. ذاب العروبي والأمازيغي والعبري والموريسكي والصحراوي والريفي والإفريقي، الخ، في جسدها ومنه انبثق جسد فسيفسائي مغربي جميل تعلق بهوى المدينة وأصبح الكل يحمل نسيمها، وإن سألتهم عن إمكانية العيش خارج ضجيجها، يبتسمون ويكون الجواب:
– مايمكنش نعيش بعيد عليها.
داخل فضاءاتها تقبض على حقيقة الزمن المغربي الاقتصادي والتربوي والاجتماعي والثقافي والإنساني. هي جسد مغربي ممدد في كل بناءاته المادية والمعنوية. ذاكرة كل المغاربة. فمن منا من لم يعالج في يوم من أيامه بها؟. ومن منا من لم تتوقف سيارته وأصيبت بعطب قاهر وقال له الميكانيكي لا مفر من البحث عن قطعة غيار في كازا؟. ومن منا من لم يتعلم بها أو من لم يعلمه معلم تشبع بعلمها؟. ومن منا من لم يستمتع بصوت طروب من مطربيها الشعبيين وغيرهم؟. ومن منا من لم يرقص على إيقاعات الغيوان في زمن السبعينيات زمن “الواشمة”؟. ومن منا من لم تصبه صيحات “لمشاهب” في صميم قلبه؟. ومن منا من لم يهتز لتمريرات اللاعب الظلمي رحمه الله صاحب الرأس المحني احتراما للجميع؟. ومن منا من لم تهزه كتابات الراحل محمد زفزاف وهو العاشق لحيه وغير الخارج منه إلا نادرا؟. ومن منا من لم تعجبه صورتها في سينمانا المغربية حتى وهي تتألم بحكاية أليمة من حكاياتها العديدة؟. ومن منا من لم يشد الرحال إليها في زمن طفولي صيفي بحثا عن “عومة” في شواطئها العديدة وحين الرجوع إلى قرانا أو مدننا الصغيرة نتباهى في اليوم الموالي في “رأس” الدرب أننا كنا في كازا؟.
كازا… جسد شعبي ورسمي ممدد ومفتوح للجميع للنبش فيه وفق هواها/هواهم. زمكان مركب بصيغ عرقية عديدة، وما عليك إلا القبض على رقمها السري لتبوح لك ببوحها اللذيذ والذي لن تشبع من متعه العديدة… أمكنة لها إيقاعاتها الخفية والظاهرة. كانت بالأمس مصدر قلق…وهي اليوم مصدر توهج غريب ومنعش للقلب.
-د.الحبيب ناصري : المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين الدار البيضاء.
المصدرقناة العرب المغربية