الكاتب : الحبيب ناصري
حينما تهيمن التفاهات وتحتل العديد من المساحات وهي لا تفيد مجتمعها، بل تجره إلى خلخلة ما تبقى فيه من نتفة جمالية وإنسانية، وتهوي به إلى قاع المسخ والتضبيع والتضييع، هنا لا نحتمي إلا بوجوه جميلة اشتغلت في صمت وتتقاعد في صمت وترحل إلى دار البقاء في صمت. “ذنبها” كل “ذنبها” أنها تربت في بيوت أصيلة وتشبعت بالعمل في صمت. تعلمت كيف تسير في “الظل” و كما نقول في لغتنا العامية المغربية، تعلمت المشي “بجنب الحيط”.
وجوه لم يكن شغلها الشاغل أن تكشف عما لديها من علم ونخوة وكرامة، لأنها تعلمت وعلمت أن العلم لذة باطنية يتلذذها من اكتوى بناره، وحينما أدرك منه ما أدرك راح ينشره في صمت. هكذا هي الوجوه الجميلة التي حملت وعلى مر السنين مشعل العلم والمعرفة.
اليوم، نعيش زمنا غير زمن العلم. التنافس نحو “البوز” أخرج أهل العلم من ذائرة الضوء وارتموا في ذاكرة بيوتهم ومكتباتهم، ينتظرون ربما زمن الرحيل بعدما أفنوا زهرة عمرهم في العطاء ولاشيء آخر غير العطاء. هيمن شيء كثير من الظلام والجهل ونفخ في أوداج “الجهل” واحتلوا العديد من مساحات الإعلام، وبقيت الأيادي البيضاء تعيش في الهوامش. لا أجيالنا الجديدة تعرفت عليها، ولا المؤسسات العلمية والبحثية والثقافية التي اشتغلت معها ومن أجلها تذكرتها في زحمة العديد من مهامها. وبقي الطيبون القليلون هنا وهناك…المتذكرون والمذكرون بهذه الوجوه ويعرفون بها ويقدمونها للغير، كلما سمحت الظروف، على الأقل لمعرفة ما قدمته لهذا الوطن الذي لولا هذه الوجوه ما أسست جامعة ولا جمعية ولا مدرسة ولا مستشفى ولا جريدة، الخ.
من نذر روحه للعلم ووضعه في خدمة وطنه والإنسانية، هم موجودون وباقون، لأن بهم يتحقق التوازن القليل. بهم بقعة ضوء صغيرة تنير العديد من أمكنة الظلام. أكيد هم اليوم في الظل والهامش، لكن ب”بركاتهم” يتحقق ما يتحقق لهذا الوطن من قطف ثمار، لولا مياههم العلمية ما قطفنا اليوم ما قطفناه.
-المقام والمقال
يوم 12 أبريل وعلى الساعة العاشرة صباحا وبكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط وعلى الساعة العاشرة سيتم تكريم وجه مغربي نسائي، يندرج ضمن الوجوه التي أشرت إليها سابقا. الدكتور فاطمة طحطح أعطت للدرس الجامعي المغربي الشيء الكثير، هي بنت الأدب العربي وما ارتبط به من أدب أندلسي بلغته العربية والإسبانية. أطرت وأشرفت وكتبت ونشرت وشاركت في العديد من الأعمال البحثية العلمية الأدبية.
لن أنس عضويتها بلجنة المناقشة لرسالتي الجامعية سنة 1996. رسالة كنت قدمتها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، وقد كانت معنونة ب” البعد السردي للقصيدة العربية المعاصرة : بدر شاكر السياب نموذجا” وقد كانت تحت إشراف العزيزين مولاي أحمد اليبوري ومولاي سعيد يقطين دون نسيان الراحل مولاي ادريس بلمليح رحمه الله الذي كان عضوا باللجنة نفسها. كنت محظوظا بهذه اللجنة العلمية وبمناقشتها وبتوجيهاتها النيرة التي تركت بصمة على مساري البحثي، وما أجنيه اليوم، ما هو إلا غرس يعود لهذه اللجنة العلمية ولأسماء عديدة درستني بكلية الآداب بمراكش وبدبلوم الدراسات المعمقة بالرباط وبالمدرسة العليا للأساتذة بالدار البيضاء وغير هذا.
الدكتور فاطمة طحطح، نموذج المرأة المغربية الراقية والباحثة المتميزة التي قدمت العديد من الخدمات للعديد من الأجيال المغربية وغيرها. فكيف ننسى وجها نسائيا مغربيا معطاء؟. نادرا ما نرسخ ثقافة الاعتراف الحقيقية في حق من أعطى العطاء المفيد للوطن. وجوه قد ننساها في زحمة الحياة وهيمنة الفارغين وسيطرتهم على التكنولوجيات الحديثة ونشر صورهم وهم “يتصدقون” بقطعة خبز أو يقدمون “عملا” أكثر ما يمكن أن نقول عنه أن نصفه لا يستحق القراءة ولا المشاهدة ونصف نصفه الآخر كتب بلغة ركيكية، والباقي كتبه له غيره، في حين من يسهر الليالي ولا يخرج عمله إلا بعد سنين وسنين، لا نجد حين تقديمه أو تكريمه من يتابعه أو من يشاهده أو من يطلع عليه، “ذنبه” الوحيد أنه ينتمي إلى معدن “ثقيل”. طبعا، حديثي هنا هو بشكل عام، دون نسيان التنويه بكل من يسمح ويتنازل عن لغة “البوز” ويكتوي بدوره ليقدم عملا وجده في الظل منشغلا بتقريبه إلى الضوء.
دام لك مجد الأدب العربي ولذة البحث في الأدب الأندلسي سيدتي الراقية الدكتورة لالة فاطمة. لن أنس فضلك علي والرأس قد اشتعل شيبا والعظم بدوره قد وهن. صورتك و”أنا” أسلم عليكم جميعا كأعضاء لجنة مناقشة هي في مكتبتي، وكلما زارني صديق حكيت له عن هذه اللجنة، وبما أنك الأنثى الوحيدة هنا، وحينما أصل إليك، أقول للسامع، أنظر طينة النساء المغربيات الجميلات الراقيات العالمات الباحثات اللواتي علينا الاعتزاز بهن.
لقد غرست غرسا طيبا سيدتي وما عليك إلا الاعتزاز والمشي مرفوعة الرأس في دروب مدينتك… وأعرف أن جيل اليوم إن سألناه عنك وعن غيرك ممن ساهم في ترسيخ الدرس الجامعي المغربي، أكيد لن يعرفهم، بينما يعرف لائحة اللاعبين لفريق كذا ومن غنى البارحة وحقق نسبة مشاهدة تجاوزت عشرات الملايين ومن قام بكذا وكذا…لكن هذا هو حال من أصبح علمه في الظل وتفاهته في “الضوء”… وعلى الرغم من هذا نغني معك أغنية :
الأرض بتتكلم عربي الأرض…
ونردفها بما جادت به قصيدة الملحون المعنون ب “الغزال فاطمة” وبصوت الحاج الحسين التولالي رحمه الله وأجواء الموسيقية وبلباسها وحلوياتها وشايهاوفرحها، ونهدي لك حفلا على إيقاعات كل هذا الطرب العريق الذي ربما بدوره يعيش في الظل بينما “الآهات” النكرات “تتبوأ” “فوقا” منفوخا كالريش لن يدوم “علوه” فوحده الزمن القادر على قول نعم للوجوه العلمية الجميلة مهما همشت…لاسيما في وطن عزيز كوطننا الذي لن تنس أتربته الأصيلة حقيقة من بناه.
-الدكتور الحبيب ناصري : أستاذ باحث
المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بالدار البيضاء
المصدرقناة العرب المغربية