جريدة العرب تيفي - كميل أبو حنيش
رام الله – فلسطين – يعتبر ديوان “أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرين” للشّاعرة آمال عوّاد رضوان، هو أوّلُ ديوانٍ شعريٍّ أُطالعُهُ للشّاعرة آمال، لم يسبقْ لي مُطالعة دواوينها الشّعريّة الثّلاث السّابقة، وما أنْ باشرتُ بمُطالعتي، حتّى عثرتُ بداخلِهِ على ما هو جديد، فهو نصٌّ شِعريٌّ مُختلفٌ، مُتميّزٌ بثرائِهِ اللّغويّ، وأسلوبهِ، وإحساسِهِ العميق، وعاطفتِهِ الجيّاشة، وتأمُّلِهِ بالطّبيعة والتّاريخِ الثّقافيّ والرّوحيّ البشريّ، هو نصٌ مُلغّز، يستقي مُفرداتِهِ مِن الطّبيعة، وهو ما يعكسُ ثقافةَ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان، وشفافيّتَها، ونُضجَها، وإحساسَها الوجوديَّ المُتجاوزَ التّاريخ البشريّ، حيثُ يَعبُرُ بنا النّصّ، ويُعيدنا إلى الأزمنةِ السّحيقة، ويَحملُنا على أمواجِ الحنينِ والشّوقِ إلى الطّبيعةِ البكر.
هذا الدّيوانُ – مِن ألِفِهِ إلى يائِهِ- عبارةٌ عن قصيدةٍ واحدة، مَركزُها شمسُ الأنوثة كونيّة الأمّ الأولى، ومثلما تحتلُّ الشّمس مركزَ عالمِنا، أرادت الشّاعرة آمال عوّاد رضوان للمرأةِ وللأنوثة أن تُشكّلَ المعنى لهذا العالم، ومركزه وعِلّة وجودِهِ، وبهذه النّصوص الّتي تأتي على لسان الذّكر في تراتيلِهِ العشقيّة، الأنثى الّتي يُقدّسُها، ويرفعُها إلى مصاف الآلهات القديمات، ويرفعُ ذاتَهُ إلى مصافِ الإلهةِ بهذا الإجلال للأنثى، وهذه النّصوص تنطوي على السُّخط والاحتجاج على جفافِ الحياة الإنسانيّة وتآكُلِ القِيم، لا سيّما قيمة الحُبّ الّتي غدت مُفردةً مُبتذلة، ومُلوّثة في عصر الاستهلاك والانحطاط، حيثُ تلتمسُ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان في نصوصِها عودتَنا إلى الطّبيعة البكر، إلى أزمنة الخصب، والسّكينة والسّلام، والانسجام مع روح الطّبيعة، وإعادتنا إلى عصر الأسطورة، وعبادة الإلهةِ الأنثى الّتي كانت تُعبّرُ عن روح العالم وسِرِّ بقائِه، وقد ازدهرَ في العقودِ الأخيرة استخدامُ الأسطورة، وتوظيفُها في الأدب والشّعر العربيّ، وهو ما يعكسُ الحنينَ للماضي السّحيق، وهي تصوُّراتٌ رومانسيّة حالمة لأزمنة سديميّة لفجر الإنسانيّة، حيثُ سيادة الأصل الأموميّ، فيما كان يعُم السّلام والأمان، والعدل والمساواة، والانسجام مع الطّبيعة وعبادة الأنثى.
هذه التّصوّراتُ تنبعُ مِن رفضِ الواقع الإنسانيّ الحاليّ، والاحتجاج عليه بلغةِ الأدب والشّعر، وحسب هذه التّصوّرات، فإنّ المُجتمعَ الأموميّ القديمَ هو مُجتمعُ الانسجام مع الطّبيعةِ والخُضوعِ لقوانينِها، وأهمُّ هذه القوانينِ هو سيادةُ المرأة الّتي كانت تتفوّق على الرّجل في خصائصِها الإنسانيّةِ والعاطفيّةِ والرّوحيّة، وتسليمُ الرّجلِ لسيادةِ المرأةِ في تلك العُصور، هو إقرارٌ بتَميُّزِها، لِما كانت تبثُّهُ مِن عواطفَ في أبنائِها وداخلِ المُجتمع المشاعيّ الأموميّ، ومُساواتِها بين الأبناء، وفي إطار المشاعة البدائيّة، وهي أيضًا حارسة النّار المُقدّسة، وهي الطّبيبة الأولى، وهي الّتي تزرعُ وتطهو وتبثُّ الأمانَ والسّلام، وهي الّتي تحمِلُ وتلِدُ وترعى صِغارَها، وبهذا هي مُتماثلةٌ مع الطّبيعةِ ومُنسجمةٌ معها.
لقد اخترعَ البشرُ الأسطورة الّتي كانَ مَركزُها الإلهةُ الأُمُّ وإلهاتُ الحُبِّ والجَمالِ الخصب، انسجامًا مع روح الطّبيعة، لأنّ الإنسانَ القديمَ تأمّلَ الوجودَ مِن حولِهِ، فعثرَ على الأنوثةِ في كلّ الظّواهر (الشّمس، القمر، الأرض، الأشجار، الحيوانات.. إلخ)، فعَبَدَ الأنوثةَ الكامنةَ خلفَ هذه الظّواهر، وربّما كانت الشّمس أبرزَ هذه الظّواهر بشُروقها وغروبها، فأدركَ أنّها سببُ الحياةِ على هذه الأرض فعَبَدَها، ولهذا اختارت الشّاعرة آمال عوّاد رضوان الشّمس رمزًا للأنوثةِ الّتي تلمعُ بينَ نصوصِها الشّعريّة، والأسطورة قديمةٌ قِدَم الإنسان، حيثُ احتلّتْ أهمّيّةً فائقةً، في حياةِ الجماعات والشّعوب القديمة قبل ظهور الأديان الحديثة، فالأسطورة مجازٌ يُحاولُ أن يُفسّر الواقع، بهدف إضفاء المعنى على الوجود.
ليس بوسع الفنّ والأدب والشّعرِ الاستغناء عن الأسطورة لا سيّما الشّعر، لأنّه يمتلكُ ما تمتلكُهُ الأسطورة مِن مجازٍ وفنٍّ، ولغةٍ متجاوزة للواقع وما يتركه من انفعالات النّفس الإنسانيّة، والشّعر هو السّليلُ المُباشرُ للأسطورة، فهو ابنها الشّرعيّ كما يقول المفكّر فراس السّوّاح.
لقد اختارت الشّاعرة آمال عوّاد رضوان الأسطورة في نصوصِها شكلًا، ومضمونًا ورمزًا، لِما تعتزمُ أن تُقدّمَهُ مِن رسائلَ في شِعرها، وما يُميّزُ آمال أنّها تمثّلت الأساطير القديمة، وأذابتْها واختارتْها لتُسقطَها في هذه النّصوص، ف”عشتار” هي رمزٌ لإلهاتِ الأمومةِ والحبِّ والجَمال، والخلقِ في مختلفِ المجتمعاتِ والثّقافات القديمة، و”عشتار” هي ذاتها “إنانا” وعشتاروت وعشيرة وعنات، وايزيش وأفروديت وفينوس، وعشرات الآلهات الأسطوريّات في هذه الثّقافات.
إنّ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان متمثّلة لأساطير الخصب والخلق الشّرقيّة، الّتي حاولتْ تفسيرَ تقلّباتِ الطّبيعة مِن خصبٍ وجفاف، وتكادُ مختلفُ أساطير الخصب والخلق الشّرقيّة تتشابهُ في شكلِها ومضمونِها، فدائمًا ثمّةَ موتٌ للإله الذّكَر الّذي يرمزُ إلى موتِ وجفافِ الطّبيعة في أشهر الصّيف والخريف، فتهبُّ الإلهة الأنثى زوجةُ الإله القتيل لإنقاذ الطّبيعة من الجفاف، مِن خلال افتداء الإله الذّكر القابع في العالم السُّفليّ، وتموت عوضًا عنه، وهو مُحاكاةٌ للأنثى الّتي تلدُ وتُعاني آلام المخاض، وهي تُضحّي بنفسِها وحياتها، كي تستمر الحياة.
لعلّ أوّلَ أسطورةٍ شرقيّةٍ معروفة هي الأسطورةُ السّومريّة الّتي تُحاولُ أن تُفسّرَ موتَ الطّبيعة وعودةَ ازدهارها، إذ يلعبُ الإلهُ “دموزي” المُلقّب بالرّاعي، والإلهة “إنانا” إلهة الحُبّ والجَمال السّومريّة، الدَّوْرَ الأبرزَ في هذه الأسطورة، حيثُ يموت “دموزي”، فتموت معه الطّبيعةُ ويهبطُ للعالم السُّفليّ أي عالم الموت، الأمر الّذي يدفع “إنانا” لتُضحّي بنفسها وتموت، وتحلّ مكان “دموزي” في العالم السُّفليّ الّذي يعود، فتزدهرُ الطّبيعةُ وتحيى من جديد، وقد جاءت الأسطورةُ البابليّة على أنقاض الأسطورة السّومريّة، بصيغةِ الإله “تمّوز” والإلهة “عشتار”، حيثُ تتطابقُ الأسطورتان ويموت “تمّوز” ويهبط للعالم السُّفليّ، فتهبط “عشتار” لتُخلّصَهُ من الموت، فتقتلُها الإلهةُ أرشيكيجال إلهة العالم السُّفليّ، وتقضي هذه الإلهةُ ببقاء “تمّوز” على وجه الأرض نصف عام ومثلها في العالم السُّفليّ، ويجري تبادلُ أدوار الحياة والموت بين “تمّوز” و”عشتار”.
هذه الأسطورةُ تكادُ تتشابهُ مع بقيّةِ أساطير الخصب الشّرقيّة، مع اختلافِ الشّكل لا المضمون، حيثُ نجدُها في ثُنائيّة “أدونيس” و”عشتاروت” الفينيقيّة وبعل وعنات الكنعانيّة وايزيوس وايزوريس المصريّة.. إلخ، والعامل المُشترك بين هذه الأساطير أنها تُحاول أن تُفسّر أسباب الخصب والجفاف في الطّبيعة علاوة على موت الإله الذّكر وافتدائه من قِبل الإلهة الأنثى الّتي تموت مكانه كما في أسطورة “دموزي” و”إنانا” و”تمّوز” و”عشتار”، أو تسارع الموت وتنتصر عليه كما في أسطورة بعل وعنات.
*”أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرين” هذا الدّيوان الّذي حمل اسم الإله “دموزي” والإلهة “عشتار”، أمّا “دموزي” فلم يكن زوجًا لـ”عشتار” وإنّما لِ”إنانا”، وربّما اختارت الشّاعرة آمال عوّاد رضوان اسم “دموزي” لأسباب فنية أما اختيارها لـ”عشتار” إنّما جاء لرمزيتها ووقع اسمها وبلاغة حضورها من بين الآلهات الأسطوريّات الاُخريات. كما سنُلاحظ أثناء تحليلنا لبعض النّصوص في هذا الدّيوان أن الشّاعرة آمال عوّاد رضوان اختارت الشّمس كرمز لـ”عشتار” حيثُ جاءت مُناجاة “دموزي” أي الرّجل لـ”عشتار” أي المرأة على شكل تراتيل دينيّة، وكأن عنوان الدّيوان (أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرين) أشبه بصلاة مرفوعة للشّمس أي لـ”عشتار” أي المرأة في صيغة (أعبُدكِ وتتألّقين)، أو أُحبُّكِ وتنتعشين.
إنّ اختيارَ الشّمسِ كرمزٍ في الدّيوان لهُ مدلولاتُهُ، فالشّمسُ هي مركزُ العالم، وهي الأقوى حضورًا من بين الكواكب والنّجوم، وهي سببُ الخصب والنّور والحياة والدّفء في هذا العالم، وقد كانت الشّمسُ أوّلَ ما لفَتَ انتباهَ الإنسان القديم، منذ أن بدأ يُدركُ وجودَهُ في الطّبيعة، فعَبَدَها ونحتَ دمًى أنثويّةً على شكلٍ بشريّ في الصّخور والكهوف، ونحتَ إلى جانب هذه الدُّمى ومن فوقها منحوتاتٌ شمسيّة، وهذه الدُّمى اتّفَقَ الباحثون والمُختصّون على تسميتها بالدُّمى العشتاريّة، اختصارًا للإلهات الأُمّ.
إنّ العباداتِ الشّمسيّةَ كانت شائعةً في الحضاراتِ القديمة، لا سيّما في مصرَ والهند وبلاد الرّافدين، حيثُ كانت الشّمسُ تُعبَدُ بوصفِها إلهة أنثى، قبل أن يجري الانقلابُ الذّكوريّ، وقبل تحويل الآلهات الإناث إلى آلهة ذكور، ففي بلاد الرّافدين استمرّت عبادةُ الشّمس لدى السّومريّين وكذلك البابليّين، حيثُ كان الإلهُ “مردوخ” إلهًا للشّمس، وفي مصرَ عُبدت الإلهة “حورس” و “رع” كآلهةٍ للشّمس، بإطار تعدّديّة عبادة الإلهة قبل أن يعتلي الفرعون أخناتون العرش، ويجعل من الإله “آتون” الإلهَ الأوحدَ في مصر، وهو إلهُ الشّمس، ويُطالبُ شعبَهُ بعبادتِهِ، وتشتهرُ تراتيلُ وتسابيحُ أخناتون المرفوعة للإله “آتون”.
هذه التّراتيلُ شبيهةٌ بنصوصِ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان، الّتي جعلت “دموزي” يرفعُ صلواتِهِ وتراتيلَهُ لـ”عشتار” المرأة، وقد كان مُعتقَدُ أخناتون يقوم على أساس الإيمان بالهٍ واحدٍ للبشريّة، وهو الإله “آتون”، وهذا الإله هو قوّةٌ مُجرّدةٌ صافية ليس لها شكلٌ مُحدّد، كانت الشّمسُ مُتجلّيةً في عالم الظّواهر، فهي الطّاقةُ الكونيّةُ الّتي تبعثُ الحياةَ والمعنى والأملَ في الوجود، و”آتون” إلهُ الشّمس الفرعونيّ له ما يُوازيهِ في المُعتقدات السّومريّة، لا سيّما الإله “أوتو” أي إله الشّمس، وأيضًا الإله “دموزي”، وكذلك المُعتقدات الفينيقيّة، لا سيّما الإله “أدونيس” أو” آدون”، وهو قريب من اسم الإله آتون المصريّ، فالآلهة “أدونيس” و”تمّوز” و”دموزي” لها علاقةٌ مُباشرةُ بالشّمس، إذ تتميّزُ هذه الأساطيرُ بوصفِها أساطير للخصب والحياة، وذلكَ باختفاءِ وظهور هذه الآلهةِ مرّةً كلَّ نصفِ عام.
وإلى جانب هذه الأساطير هناك أيضًا الأديان والمُعتقدات الزّرادشكيّة والمانويّة، وأصحاب المُعتقدات الهنديّة الّتي تقومُ على عُنصري النّور والظّلام، وعبادة بعض مظاهر الطّبيعة كالشّمس والقمر والنّجوم، وعلى ما يبدو فإنّ هذه المُعتقدات والأساطيرُ قد تركتْ تأثيرَها في وجدان الشّاعرة آمال عوّاد رضوان، وتمثّلتها وسكبتْها في نصوصِها الشّعريّة، بحيث جعلت النّورَ والشّمسَ رمزًا للأنثى “عشتار”، بدلًا من الآلهةِ الذّكوريّة، وقُلبت المُعادلةُ، بهدف تصحيح هذا الخلل التّاريخيّ الّذي وقعَ بفعل الانقلاب الذّكوريّ، الأمر الّذي ينطوي على الاحتجاج، ويستبطنُ الشّعورَ بالاجحاف، فأرادتْ مِن خلال نصوصِها الشّعريّةِ العودةَ إلى الطّبيعةِ، حينما كانت السّيادةُ للأنثى وإعادة تأليهِها من جديد، كما كان عليه الحالُ في عصر الأسطورة الأولى، عندما كانت الآلهةُ الذّكورُ تدورُ في فَلكِ الإلهةِ الأنثى، كما تدورُ الكواكبُ في فلَكِ الشّمس.
وفي التّرتيلة السّومريّة للإلهةِ “إنانا” الّتي هي ذاتها الإلهة “عشتار”:
إنّي ملكةُ السّماء
وما من إلهٍ قادرٍ على مُنازعتي
لي السّماءُ ولي الأرضُ
هذه التّرتيلةُ ترمزُ إلى تفوُّقِ الإلهة الأنثى على الآلهةِ الذّكور، كما هي مركزيّةُ الشّمس في عالمِنا.
وفي ترتيلةٍ بابليّةٍ للإلهة “عشتار”:
أي “عشتار”
يا سيّدةَ البَشرِ أجمعين
ومُسدّدةَ خُطاهم
المصدرالعرب تيفي.كوم