الإرث بتونس ..معركة بدون مجد..
هيئة التحرير 29 نوفمبر، 2018
الدكتور خالد فتحي*
تمخض الجبل فولد فأرا. عوض أن نرى نهوضا اقتصاديا وإصلاحا سياسيا مستديمين ، أو نلمس تغيرا ملموسا لأحوال الناس المعيشية، رأينا فقط تونس التي تحاول أن تصلح عبثا القرآن الكريم، و نخبة سياسية تائهة فيها تسعى لتحميل بلاد مسلمة مالا تطيقه من تشريعات غريبة ناشزة، وبعيدة كل البعد عن هويتها، كما لو أن الإسلام بحذافيره هو الذي كان يطبق في تونس بورقيبة وبنعلي وفشلا .أو كأن هذا الدين الذي جاء مع عقبة بن نافع هو سبب البلاء المستمر هناك و سبب كل الأدواء التونسية، ووراء كل كم الإحباط الذي يدفع الشباب التونسي نحو أمرين احلاهما مر: البحر او داعش .هذا الاستهداف للجزر المتبقية من الشريعة الاسلامية كبير بتونس لدرجة أننا قد نشك أن التمرد على مابقي من تشريعات إسلامية ببلاد المغرب الأدنى هو من إودى بالبوعزيزي ودفعه لإحراق نفسه وجر الجماهير الغاضبة لكرامتها المهدورة المراقة لمياديين الحرية والكرامة والانعتاق .والأدهى أنه تبعا لذلك ها نحن نشاهد أنه عوض أن تدان الديكتاتورية والاستبداد اللذان كبلا يدا تونس منذ الاستقلال، وتوضع المتاريس القانونية و الثقافية دونهما، يدان الدين الإسلامي ونظام الإرث مكانهما وبدلا منهما، ونضبط السبسي الآتي من الحقبة البورقيبية والحالة هذه متلبسا بمحاولة إسباغ هدف مزيف ونسب” إصلاحات”لقيطة للثورة التونسية التي قامت كما فهمنا جميعا وتابعنا جميعا ضد الحكرة والربع والفساد والغبن الحاصل في توزيع الثروات بين البسطاء والنافذين و ضد التفاوت الصارخ في المشاريع بين المدن والهوامش . وهي المهمة التي لو نهض بها بورقيبة في وقته، لكان قد وضع تونس على سكة النماء والازدهار دون رجعة.إن هذا الاصرار على التجمل للغرب الذي نلمسه لدى القادة التونسيين على اختلاف مشاربهم يجعلنا ننسى أن ثورة الياسمين لم تقم لا ضد الإسلام ولا ضد الهوية أوأسباب الانتماء.بل قامت ضد الظلم و في وجه الارتهان للمؤسسات النقدية الدولية و التخلص من شعور الاغتراب عن الذات التونسية الأصيلة.
دعونا نتأمل مليا مايحدث بتونس الحبيبة .ونرى إن كان هذا البلد الصغير جغرافيا، الكبير مشاكل، المثخن بالخيبات، المتعثر الخطوات، المصدوم في نخبه، بوسعه أن يكون نموذجا لغيره من بلاد العرب والمسلمين.دعونا نميز الغث من السمين في كل هذا ، ونفحص مواقف الفرقاء . ونفهم تبعا لذلك لماذا تنعطف تونس كل هذه الانعطافة المتنطعة. ولماذا تصر على السير إلى الأمام في هذا الاتجاه المثير للجدل وللفتن ؟. وهل ما يحدث فيها اجتهاد لم يخطر ببال غيرها من باقي بلاد المسلمين،هل تكون أفلحت فيما عجز عنه الآخرون فيكون هذا الذي تجترحه فتحا مبينا لنا كلنا ،أم هي فقط مضطرة من فرط غلبها لأن تتأسى بالآخر. وبالتالي لا بطلة هي، ولا مجد فيما تقدم عليه.
أولا ياتي هذا التحوير لنظام الإرث في سياق تحوير وزاري قاده يوسف الشاهد ضد ولي نعمته السبسي بعد الصراع المحموم بين نجل الرئيس حافظ ورئيس الحكومة .وهو الصراع الذي تصدع بسببه حزب نداء تونس، وتراجع للمعارضة، وعزل فيه الرئيس عن السلطة التنفيذية التي تمثلها الحكومة في مشهد سوريالي لانقلاب ناعم قادته النهضة ضد الرئيس باستقطاب يوسف الشاهد او الانضمام إليه .فحقيقة لاندري كيف نصف هذا الود الحاصل بينهما .ولكن ندري الآن انها وجدت فيه ضالتها ووجد فيها ضالته.
في ظل التقاء المصالح هذا، تبرز ورقة المرأة كسلاح احتياطي يخرجه الرئيس الباجي السبسي من دولابه الخلفي في الوقت الميت من ولايته، و يشهره في وجه كل خصومه ليخلط الأوراق و ليدفعهم نحو الحائط من خلال إجبارهم على توضيح مواقفهم من قضية يعتبر هو ومن تأثروا مثله بالفقه البورقيبي انها أصبحت تمثل لب الهوية الجديدة لتونس التي نحتها الرئيس بورقيبة” كمستبد متنور” .آملا من وراء ذلك أن يقود انقلابا مجتمعيا ضد الجميع هو في العمق آخر مفاجآته التي قد تجعله يرد الصاع صاعين، ويتحكم في دفة الانتخابات الرئاسية لسنة 2019 التي على الأبواب. وتمكنه بالخصوص من أن يدخل التاريخ كمتمم لرسالة” الحبيب المصطفى” عفوا الحبيب بورقيبة صانع تونس الحديثة اي تونس التي نعرف الآن .فعندما تعز الإنجازات الحقيقية، يلوذ الذين لاحيلة لهم وفي جميع المجالات للازمة -خالف تعرف -كآخر طريق لهم للخلود وتكريس أسمائهم بشكل من الأشكال يكفيهم شر النسيان.
إنه يظهر أيضا كما لو أنه يختبر التلاحم الحاصل في الضفة الأخرى، اي الجهة المقابلة المشاكسة له ،و كمن يسعى لفله وتفكيكها بهذا الخيار العسير على الإسلاميين على وجه الخصوص .ويمتحن كذلك و بدهاء المجربين في إدارة المناورات السياسية ليبرالية يوسف الشاهد و”حداثته “وإيمانه بحقوق المرأة ويدفعه إلى التناقض مع النهضة التي تدعمه او الى الخروج عن مبادئ الإجماع لدى الصف العلماني .ولكنه يحاول ايضا أن يفضح نهج التقية عند حزب راشد الغنوشي الذي استطاع إلى الآن أن يتكيف كحرباء فائقة القدرة على التلون مع كل المواقف المحرجة التي وجد نفسه مجبرا على ابتلاعها لأجل البقاء على قيد الحياة في المعترك السياسي. هذه هي المآرب الأخرى للسبسي. وإن كنا نعتقد أنه يخطئ كثيرا في تقدير مواقف الإسلاميين ببلده.. فحزب النهضة قادر على أن يبرهن سواء له ولغيره و لأقصى الحدود عن “علمانيته” التي لا يبدو أن لها حدودا اوضفافا تقف عندها .فالحزب برجماتي حتى النخاع ويستطيع أن يتاقلم مع كل الظروف و يجتاز كل الاختبارات ويستطيع ان يجتهد ويخطئء حتى بقصد ،ويكون له مع ذلك اجر واحد عند الله وهو يكفيه اذا جاءت معه مغانم كثيرة يجنيها في مضمار السلطة المغري. وله في تبرير كل هذا في العدالة و التنمية التركي مع الفارق الكبير بينهما خير مشجب يمكنه من تغيير الجلد و النبرة كلما تطلبت تقلبات السياسة منه ذلك. اليست الحرب حتى مع ابناء جلدتك خدعة ؟؟.
فهل بعد كل هذا التعامل الانتهازي لكل الفرقاء مع قضية المرأة والارث يمكن القول اننا بصدد ثورة ثقافية أو اجتهاد فقهي او فتح حداثي مبين . المؤكد لا . القضية قضية صراع سياسي وقضية تجمل للغرب الذي يراقب .خصوصا ان الديون الخارجية لتونس تضع اكثر من علامة استفهام الآن حول إرادتها الحرة.نحو إذن امام توازنات بين الفرقاء لا أقل ولا أكثر . وامام اسد انا مشروحة و لعبة سياسية فجة ومفضوحة تشكل المرأة و نظام الإرث الإسلامي وقوداها الأساسيان.مما يجعل الأسرة أكثر في كل الريح . والأسرة بوصفها مؤسسة اجتماعية حيوية يبنى عليها المجتمع كان لا يجب أن تخضع للأهواء السياسة ولشظف الاقتصاد أوصراعات ونزوات الفرقاء . بل ان تظل ناعمة بالاستقرار ولا تتغير إلا ببطء غير محسوس يمثل حركة المجتمع الرصينة عبر التاريخ .انها ارفع من كل تلك الرهانات والمهاترات بكثير. و لذلك نعتقد أن النخبة التونسية أخطأت التشخيص ،وأخلفت موعدها مع التاريخ، و أنها تضيع وقتا ثمينا فيما لا ينفع، لا لها، ولا لتونس، ولا للبلدان الاسلامية.إنهم يخوضون في تونس المعركة الخطأ في التوقيت الخطأ بالتركيز على القضايا الخطأ. ولذلك لاينبغي ان يتعجبوا غدا اذا كفوا أن يكونوا مثالا ملهما للآخرين.فالعبرة عند الشعوب شئنا أو اببنا تكون دائما بالنتائج.
*بروفيسور بكلية الطب بالرباط دكتور في العلوم السياسية
2018-11-29
شاركها
- فسبوك
- تويتر
- قوقل بلوس
- LinkedIn