تونس..المرأة والاستبداد الذكوري
هيئة التحرير 5 ديسمبر، 2018
خالد فتحي*
يتصاعد التوتر وتتوالى الأحداث في مربع الحكم والسياسة، فتتضح الأموراكثر، وتتجلى كفلق الصبح، ويظهر للجميع أن المرأة ليست إلا عنصر تجاذبات بين القوى السياسية بتونس، وليست سوى مطية للصراع واقتطاع جزء من السلطة والنفوذ.. فينكشف الاستبداد الذكوري عاريا مرة أخرى بين ثنايا دعوات السياسيين، لتحرير النصف اللطيف للمجتمع بفصله عن هويته الحضارية والدينية، وتغريبه من خلال ادعاء حقوق جديدة لها قد يكون” أغفلها” الدين أو “طمرتها” التجربة التاريخية للشعوب المسلمة.
السبسي بعد أن رمى بالكرة الملتهبة للتساوي في الإرث في وجه خصومه، يردفها بالخطوة أو التمريرة الثانية، ويقطع آخر الوشائج الرفيعة المتبقية مع النهضة، بعد كشفه أن لها تنظيما سريا، وأنها ضالعة في اغتيال اليساريين شكري بلعيد والبراهمي، وأنها فكرت في تصفيته هو وهولاند رئيس فرنسا السابق، ولايقف عند هذا، بل ويزيد بالقول إن بيانها الأخير هو الآخر مبطن بتهديد ضمني لرئيس الجمهورية.
والنهضة من جانبها، ربما تشعر الآن أنها قد أحرقت كل مراكب العودة إلى حضن الرئيس الغاضب، الذي حماها أكثر من أربع سنوات في عز الانقلاب على الإسلام السياسي. وقد تتوجس أنها وضعت كل بيضها في سلة غريمه يوسف الشاهد. وهي سلة قد يتضح قريبا أنها مثقوبة، فعندما سيعرض قانون الإرث على البرلمان، سيتذكر يوسف هذا إخوته وأباه الباجي السبسي في نداء تونس، ويصوت معهم هو وكتلته إثباتا لحسن حداثته، ودفعا لشبهة تشيعه للإخوان المسلمين، أمام مؤسسات النقد الدولي التي تدعمه في السنوات العجاف.
وغني عن القول والحالة هذه، أن السبسي وضع الآن الجميع في وضعية الإحراج، بمعنى أنه كيفما تفاعلوا مع ما يصدر منه، سيخسرون في النهاية ويكون هو الرابح.
فالنهضة، إذا صوتت لصالح المساواة في الإرث، ستفقد من قاعدتها الانتخابية أعدادا غفيرة من المحافظين والمتدينين، حيث سيفهمون أنها مجرد كيان “منافق” يسترزق بالإسلام في السياسة، ليمروا إلى فسطاط السبسي الحداثي” الأصيل” الذي لا يشك بحداثته. فإذا لم يكن من الحداثة بد فمن الغباء أن تتحادث نهضويا بل ينبغي أن يكون ذلك سبسيا. واذا صوتت النهضة ضد القانون فسيغري بها السبسي الغرب والمؤسسات الدولية، ويؤلبهم عليها ويفضح زيف مدنيتها، وعدم تشبعها بخلق الديمقراطية وحقوق الإنسان.
والسبسي كذلك يستلهم مآسي تنظيم الأخوة المسلمين بمصر، مع التنظيم السري والاغتيالات التي نفذها خلال أيام التأسيس الأولى، وكانت سببا في وصمه بتطرف العقيدة وعنف الأفكار، وينسج على منوالها معتبرا من مرحلة الرئيس مرسي الأخيرة ببلاد الكنانة والاتهامات التي وجهت له. إنه يضع النهضة في الزاوية الضيقة، ويمتحننها ويبلوها في وجودها، ويرفع مستوى الصراع عاليا جدا.ولعله من مكر الدستور أن النهضة إن أدينت، فسيكون على يوسف الشاهد، رئيس الحكومة وحليفها الحالي، أن يصدر قرار حلها لينهار كل البناء على رأسها ورأسه وينتهي كل التدبير الذي بينهما.
هل تكون النهضة ياترى قد أخطأت في تقدير ميزان القوى السياسي. ؟ أم أن دهاء السبسي لا حدود له في التأقلم مع المستجدات والنوازل السياسية ؟. هل هي فعلا تنظيم بارع متقن للتقية إلى هذا الحد ؟ وهل دقت الآن ساعة الحقيقة حقيقة “تطرف” هذا التنظيم بما يمتلكه السبسي من معلومات يقول إنها « خطيرة وحاسمة »؟.هل يكون يوسف الشاهد قد باع الوهم النهضة ؟ . أم ان النهضة لم يغرر بها أحد، و أنها هي من جلبت واصطنعت لنفسها عجل السامري؟.
كل هذه الأسئلة تبقى ممكنة ومشروعة. والمشهد السياسي التونسي يحبل بمفاجآت قادمة، فكلما اقتربنا من موعد الاستحقاقات الرئاسية، كلما أخرج الفرقاء المتصارعون المزيد من الأسلحة التي خبأوها بعناية بين طيات معاطفهم لوقت الحاجة إليها، إذ لا تبدو لا الأرباح السياسية ولا المواقع الآن نهائية، ومن يبدو اليوم معزولا، قد يصير غدا يتحكم في كل الأوراق. ومن تلوح له علامات وبشائر النصر، قد تقلب له السياسة ظهر المجن، ويجد نفسه منبوذا مدحورا مطرودا من “جحيم الحكم بوصفه الآن بتونس مجرد عز في لظى. فخيوط السياسة التي تحرك اللعبة كثيرة ومتشابكة. وبعضها إن لم أقل أغلبها يطول إلى خارج تونس.
حتى المنصف المرزوقي، الرئيس السابق وزعيم حزب الحراك، عيناه مسمرتان تراقبان بتطلع الوضع، قد أدلى بصنارته في البركة المتموجة للتحالفات، لعله يصطاد سمكة الرئاسة من جديد. هاهو في آخر خرجة إعلامية له قد نزع عنه عباءة الحداثة ولبس بدلا عنها عباءة الأصالة. و شرب حليب السباع وقال إن التحديث لا يفرض بالقوة، ولا حتى بالديمقراطية، وأنه يعلن نفسه منذ الأول خصما لقانون المساواة في الإرث ضدا على ما اعتبره انتهازية في إثارة قضايا المرأة، ولكأنه يتموقع في موقع المبارز للسبسي في الانتخابات المقبلة، أو هو يعرض في الحقيقة نفسه على النهضة لتحويل خزانها الانتخابي إليه بدلا من الجميع .. فالنهضة هي بالنسبة لكل الطامحين الانكشارية الضرورية لانتزاع منصب رئيس الجمهورية بتونس.
إن الأدهى من كل هذا، وهو ما لايضرب له حسابا لا المرزوقي ولا الغنوشي، هو أن تكشف الأيام عن أن كل ما جرى هو فقط توزيع متقن للأدوار بين يوسف الشاهد والسبسي، حيك بليل لنزع ورقة التوت عن النهضة وزعيمها وتبيان حربائيتها، فالحرب خدعة أليس كذلك؟.
ولكن هؤلاء اللاعبين جميعهم ينسون لاعبا آخر حاسما يتفرج تفرج المنكر لكل هذا.. إنه الشعب التونسي الذي أصابه السأم من طول انتظاره لهذا الفرج الذي تعطل مجيئه كثيرا. التونسيون يعانون من احتراق الأسعار واحتراق الآمال، وتحولها إلى سراب بسبب المناكفات في صفوف الطبقة السياسية..إنه اللاعب الذي يدعي الكل وصاله، ولكنه لا يلمس منهم ذلك، والذي قد يقلب الطاولة على الجميع، وقد يقرر أن يعيد إنتاج ثورته من جديد في إيهاب جديد.
إنها منعطفات ومنعرجات خطيرة تمر بها التجربة التونسية الغضة ،وهي المنعطفات التي تسبق عادة الفوضى، بعضها ناتج عن الطمع الزائد والأنانية السياسية المفرطة أو عن فقدان الثقة والتوجس بين الفرقاء وبعضها الآخر يصدر لها من الخارج فيكون رجع صدى لصراع المحاور .والخاسر الأكبر في كل هذا هو مستقبل تونس الذي يأبى أن يولد حتى الآن .
إن تونس تحتاج في هذه المنعطفات لكثير من التعقل والحكمة والرزانة، وإلى تغليب البعد الاستراتيجي في السياسة، ولكني أخشى أن تكون في حاجة أيضا للحظ والبركة، حتى تجتاز كل هذا المسار المتعثر….وقاها الله من كل مكروه وحماها من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
*بروفيسور بكلية الطب بالرباط دكتور في العلوم السياسية
تونس..المرأة والاستبداد الذكوري 2018-12-05
شاركها
- فسبوك
- تويتر
- قوقل بلوس
- LinkedIn